الثلاثاء، 17 يناير 2017

(الإخلاص لله جلّ وعلا

🌴🌾🌴

✍🏻قال ابن المبارك رحمه الله :
قدمت مكة فإذا الناس قد قحطوا من المطر وهم يستسقون في المسجد الحرام ، وكنت في الناس مما يلي باب بني شيبة ، إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش ، قد ائتزر بإحداهما
  وألقى الأخرى على عاتقه ، فصار في موضع خَفِيٍّ إلى جانبي ، فسمعته يقول: إلهي أَخْلَقَتِ الوجوهَ كثرةُ الذنوبِ ومساوىءُ الأعمال ِ، وقد منعَْتنا غيثَ السماء لتؤدّب الخليقة بذلك ، فأسألك يا حليمًا ذا أناة ، يا من لا يعرف عبادُه منه إلا الجميل ، اسقهم الساعة الساعة .
▫ قال ابن المبارك : فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى استوت بالغمام ، وأقبل المطر من كل مكان ، وجلس مكانه يُسبّح ، وأخذت أبكي ، فلما قام تبعته حتى عرفت موضعه .
فجئت إلى فضيل بن عياض فقال لي : مالي أراك كئيبًا؟
▫فقلت: سبَقنا إلى الله غيرنا فتولاه دوننا !
▪قال: وما ذاك ؟
فقصصت عليه القصة فصاح وسقط.
▪وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه .
▫قلت: قد ضاق الوقت وسأبحث عن شأنه فلما كان من الغد صليت الغداة وخرجت إلى الموضع فإذا شيخ على الباب قد بُسط له وهو جالس ، فلما رآني عرفني .
▪وقال: مرحبًا بك يا أبا عبد الرحمن، حاجتك. فقلت له: احتجت إلى غلام أسود .
▪فقال: نعم عندي عدة فاختر أيهم شئت؟ فصاح يا غلام ، فخرج غلام جلد .
▪فقال : هذا محمود العاقبة أرضاه لك .
▫فقلت: ليس هذا حاجتي فما زال يُخرِج إليَّ واحدًا واحدًا حتى أَخرَجَ إليَّ الغلام ، فلما أبصرت به بدرت عيناي .
▪فقال : هذا هو؟
▫قلت : نعم .
▪فقال ليس إلى بيعه سبيل .
▫قلت: ولِمَ؟
▪قال: قد تبرّكت لموضعه في هذه الدار وذاك أنه لا يزرؤني شيئًا .
▫قلت: ومن أين طعامه؟
▪قال: يكسب من قبل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر فهو قوته ، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هذا الليل الطويل ، ولا يختلط بأحد منهم مشغول بنفسه، وقد أحبه قلبي .
▫فقلت له : أنصرفُ إلى سفيان الثوري ، وإلى فضيل بن عياض بغير قضاء حاجة؟
▪فقال: إن ممشاك عندي كبير خُذه بما شئت.
▪قال: فاشتريته وأخذت نحو دار فضيل، فمشيت ساعة .
▪فقال لي: يا مولاي ؟
▫قلت: لبيك
▪قال: لا تقل لي لبيك فإن العبد أولى أن يلبي المولى !
▫قلت: حاجتك يا حبيبي ؟
▪قال: أنا ضعيف البدن لا أطيق الخدمة وقد كان لك في غيري سعة ، قد أخرج إليك من هو أجلد مني .
▫فقلت : لا يراني الله وأنا أستخدمك ، ولكني أشتري لك منزلاً وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي !
▪قال: فبكى .
▫فقلت: ما يبكيك؟
▪قال: أنت لم تفعل فيَّ هذا إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى وإلا فِلمَ اخترتني من بين الغلمان؟
▫فقلت له : ليس بك حاجة إلى هذا !
▪فقال لي : سألتك بالله إلا أخبرتني ،
▫فقلت: بإجابة دعوتك .
▪فقال لي : إني أحسبك إن شاء الله رجلاً صالحًا ، إن لله - عزَّ وجلَّ - خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى .
▪ثم قال لي : ترى أن تقف علي قليلا ً، فإنه قد بقيت علي ركعات من البارحة.
▫قلت: هذا منزل فضيل قريب.
▪قال: لا. ها هنا أحب إليَّ أمر الله - عزَّ وجلَّ - لا يؤخر فدخل من باب الباحة إلى المسجد فما زال يصلي حتى إذا أتى على ما أراد التفت إليّ .
▫فقال : يا أبا عبد الرحمن،هل من حاجة؟
▫قلت: ولِمَ ؟
▪قال: لأني أريد الانصراف !
▫قلت: إلى أين؟
▪قال: إلى الآخرة !!
▫قلت: لا تفعل، دعني أُسَرُّ بك .
▪فقال لي : إنما كانت تطيب الحياة ، حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى فأما إذا اطلعت عليها أنت فسيطلع عليها غيرك فلا حاجة لي في ذلك ، ثم خرَّ لوجهه .
▪فجعل يقول : إلهي اقبضني إليك الساعة الساعة .
👈فدنوت منه فإذا هو قد مات.
فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني.
📚المنتظم لابن الجوزي 8 / 223 - 225 📚

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق